فصل: باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب صَبِّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ

- فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ جَاءَ الرَسُول صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِى، وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأ، َ وَصَبَّ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِه، ِ فَعَقَلْتُ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل على طهور الماء الذى توضأ به، لأنه لو كان نجسًا لم يصبه عليه، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم الذى عَانَ سهلا أن يتوضأ له، ويغسل داخلة إزاره ويصبه عليه، ولو كان نجسًا لم يأمر سهلا أن يغتسل منه، بل رجاء بركته، وأن يحمل عنه شر العين‏.‏

وفيه‏:‏ رقية الصالحين للماء، ومباشرتهم إياه، وذلك مما يرجى بركته‏.‏

باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِى الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ

- فيه‏:‏ أَنَسٍ، أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا‏:‏ كَمْ كُنْتُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَمَجَّ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَتَانا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِى تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ تمت أهَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ-، وَأُجْلِسَ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ‏.‏

الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فائدة هذا الباب أن الأوانى كلها من جواهر الأرض ونباتها طاهرة، إذا لم يكن فيها نجاسة‏.‏

والمخضب يكون من حجارة ومن صفر، والذى فى حديث أنس كان من حجارة، وأما الذى فى حديث عائشة كان من صفر‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، أو غيره، عن عائشة، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى مات فيه‏:‏ تمت صبوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلِّى أستريح فأعهد إلى الناس-، قالت عائشة‏:‏ فأجلسناه فى مخضب لحفصة من نحاس‏.‏‏.‏، وذكر الحديث‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روى عن على بن أبى طالب أنه توضأ فى طست، وعن أنس مثله‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ رأيت عثمان يُصبُّ عليه من إبريق، وهو يتوضأ‏.‏

قال‏:‏ وما علمت أحدًا كره النحاس والرصاص وشبهه إلا ابن عمر، فإنه كره الوضوء فى الصفر، وكان يتوضأ فى حجر، أو فى خشب أو فى أدم‏.‏

وروى عن معاوية أنه كان يصلى بهم، وقال‏:‏ نهيت أن أتوضأ فى النحاس‏.‏

ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والحجة البالغة‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ ذكرت لعطاء كراهية ابن عمر للصفُر، فقال‏:‏ أنا أتوضأ فى النحاس، وما يكره منه شىء إلا رائحته فقط‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه، فهذه الرواية عنه أشبه بالصواب، وما عليه الناس‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ يحتمل أن تكون كراهية ابن عمر للنحاس، والله أعلم، لما كان جوهرًا مسنخرجًا من معادن الأرض، شبهه بالذهب والفضة، فكرهه لنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشرب فى آنية الفضة‏.‏

وقد روى عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا الوضوء فى آنية الفضة، وهم يكرهون الأكل والشرب فيها‏.‏

وفى وضوء الثمانين رجلاً من مخضب صفُرٍ لم يبسط النبى صلى الله عليه وسلم كفه فيه علَمٌ كبير من أعلام النبوة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إنما أمر، والله أعلم، أن يهراق عليه من سبع قرب على وجه التداوى، كما صب صلى الله عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه، وكما أمر المعين أن يغتسل به، وليس كما ظن وغلط من زعم أن النبى صلى الله عليه وسلم اغتسل من إغمائه‏.‏

وذكر عبد الوهاب بن نصر، عن الحسن البصرى، أنه قال‏:‏ على المغمى عليه الغسل‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ عليه الغسل إذا طال ذلك به‏.‏

والعلماء متفقون، غير هؤلاء، أن من أغمى عليه فلا غسل عليه إلا أن يجنب‏.‏

وقصده إلى سبع قرب تبركًا بهذا العدد، لأن الله تعالى خلق كثيرًا من مخلوقاته سبعًا سبعًا‏.‏

وترجم لحديث عبد الله بن زيد‏.‏

باب الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ

- وفيه‏:‏ تمت فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بيديه وَأَدْبَرَ‏.‏‏.‏‏.‏-، وذكر الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ بهذا الحديث احتج الحسن بن حىّ ومن أجاز أن يبدأ المتوضئ بمسح الرأس من مؤخره، وليس كما ظن، لأن الواو لا توجب رتبة، لأن قوله‏:‏ تمت فأدبر بيديه وأقبل- يحتمل التقديم والتأخير، ولو بدأ صلى الله عليه وسلم فى مسح رأسه بمؤخره- على ما جاء فى هذا الحديث- لم يدل ذلك على أن سنةَ مسح الرأس أن يبدأ بمؤخره، لأن هذه الفعلة إنما كانت نادرة منه صلى الله عليه وسلم وفعلها ليرى أمته السعة فى ذلك، وقد كان يفعل طوال دهره ما روى مالك فى حديث عبد الله بن زيد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه فبدأ بمقدمه، ثم ذهب بهما إلى قفاه‏.‏

وهذا يرفع الإشكال فى ذلك على ما بيناه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت قد رحراح- هو القصير الجدار القريب القعر‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال إناء رحراح ورحرح إذا كان واسعًا‏.‏

قال الحربى‏:‏ ومنه الرحرح فى حافر الفرس، وهو أن يتسع حافره ويقل عمقه، قال الأصمعى‏:‏ ويكره فى الخيل‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ المخضب مثل الإجانة التى تغسل فيها الثياب، وقد يقال لها‏:‏ المركن أيضًا‏.‏

باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ اختلف أهل العراق، وأهل الحجاز فى مبلغ المد والصاع كم هو‏؟‏ فذهب أهل العراق إلى أن الصاع‏:‏ ثمانية أرطال، والمُدّ‏:‏ رطلان، واحتجوا بما رواه سهل ابن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن حميد، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع‏.‏

قالوا‏:‏ فإذا ثبت أن المُدّ رطلان ثبت أن الصاع ثمانية أرطال‏.‏

وذهب أهل المدينة إلى أن المُدّ ربع الصاع، وهو رطل وثلث، والصاع خمسة أرطال وثلث‏.‏

وهو قول أبى يوسف وإليه رجع حين ناظره مالك فى زنة المُدّ وأتاه بِمُدِّ أبناء المهاجرين والأنصار وراثة عن النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة‏.‏

وهو قول إسحاق بن راهويه‏.‏

وحديث أنس لا حجة لأهل العراق فيه، لأنه قد روى بخلاف ما ذكروه، رواه شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبير أنه سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمسة مكاكى‏.‏

وهذا بخلاف ما رواه عن أنس، والمكوك عندهم‏:‏ نصف رطل إلى ثمانى أواقى‏.‏

واختلفوا هل يجزئ الوضوء بأقل من المد، والغسل بأقل من الصاع‏؟‏‏.‏

فقال قوم‏:‏ لا يجزئ أقل من ذلك لورود الخبر به، هذا قول الثورى والكوفيون‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ليس المد والصاع فى ذلك بحتم، وإنما ذلك إخبار عن القدر الذى كان يكفيه صلى الله عليه وسلم لا أنه حد لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف‏.‏

والمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك، لأن السرف ممنوع فى الشريعة‏.‏

وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ تمت سيكون فى هذه الأمة قوم يعتدون فى الطهور والدعاء-‏.‏

وإلى هذا ذهب مالك وطائفة من السلف، وهو قول الشافعى، وإسحاق‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إن لى ركوة، أو قداحًا، يسع نصف المد، أو نحوه وأنا أتوضأ منه وربما فضل فضل‏.‏

وعن سليمان بن يسار مثله‏.‏

وتوضأ القاسم بن محمد بقدر نصف المد وزيادة قليل‏.‏

وقيل لأحمد بن حنبل‏:‏ إن الناس فى الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد‏؟‏ فقال‏:‏ إذا أحسن أن يتوضأ به وغسل فلم يمسح يجزئه‏.‏

وقال ابن أبى زيد‏:‏ القليل من الماء مع إحكام الوضوء سنة، والإسراف فيه غلو وبدعة‏.‏

وهذا كله رد على الإباضية، ومن رأى أن قليل الماء لا يجزئ، والسنة حجة على من خالفها‏.‏

باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

- فيه‏:‏ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، أَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ‏.‏

وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ أَبَاه عَنْ ذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،‏:‏ أَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَأَى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ‏.‏

رواه شيبان، وأبان، وحرب، عَنْ يَحْيَى بن أَبِى كثير‏.‏

- ورواه‏:‏ الأوْزَاعِىُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ‏.‏

وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، رَأَيْتُ النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

اتفق العلماء على جواز المسح على الخفين، ورويت فيه عن مالك روايات، والذى استقر عليه مذهبه جوازه‏.‏

وقالت الخوارج‏:‏ لا يجوز أصلاً، لأن القرآن لم يَرِدْ به‏.‏

وقالت الشيعة‏:‏ لا يجوز، لأن عليًّا امتنع منه‏.‏

وحجة الجماعة ما روى فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الطرق التى اشتهرت، وعن الصحابة الذين كانوا لا يفارقونه فى الحضر، ولا فى السفر‏.‏

فممن نقل ذلك عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ عمر بن الخطاب، وعلى، وسعد، وابن مسعود، والمغيرة، وخزيمة بن ثابت، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، وأنس، وعمرو بن العاص، وأبو أيوب، وأبو أمامة الباهلى، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى الأشعرى، وجابر، وأبو سعيد، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود الأنصارى، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو بكرة، وبلال، وصفوان بن عسال، وغيرهم حتى قال الحسن البصرى‏:‏ حدثنى سبعون من أصحاب محمد أنه مسح على الخفين، فجرى مجرى التواتر‏.‏

وحديث المغيرة كان فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، فسقط بهذا قول من يقول‏:‏ آية الوضوء مدنية والمسح منسوخ بها، لأنه متقدم وغزوة تبوك آخر غزوة كانت بالمدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذا‏.‏

وقد تأول جماعة من الفقهاء قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43، المائدة‏:‏ 6‏]‏ فى قراءة من خفض، أراد إذا كانا فى الخفين‏.‏

ومما يدل أيضًا أن المسح غير منسوخ‏:‏ حديث جرير أنه‏:‏ رأى النبى صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وكان يعجبهم، لأن جريرًا أسلم بعد المائدة فأعجبهم حين رأوا المسح عن النبى صلى الله عليه وسلم، بعد نزول المائدة، ولم يقل لهم النبى صلى الله عليه وسلم عند نزول المائدة أن هذه الآية قد نسخت المسح على الخفين‏.‏

وأيضًا فإن حديث المغيرة فى المسح كان فى السفر، فأعجبهم استعمال جرير له فى الحضر، وأنه لم ينسخه شىء ذكره البخارى فى كتاب الصلاة‏.‏

ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس، وقد روى عن علىّ، وعائشة، وأبى هريرة، وأبى أيوب‏.‏

فأما ابن عباس وأبو هريرة فقد روى عنهما خلاف ذلك فى موافقة سائر أصحابه‏.‏

وقيل لأحمد بن حنبل‏:‏ ما تقول فيما روى عن ابن عباس، وعائشة، وأبى أيوب فى إنكار المسح‏؟‏ إنما روى عن أبى أيوب أنه قال‏:‏ حبب إلىّ الغسل‏.‏

فإن ذهب ذاهب إلى مثل هذا القول ولم ينكر المسح لم نعبه وصلينا خلفه‏.‏

وقد كان مالك يذهب إلى ذلك، ولم ينكر المسح، وإن ترك المسح، ولم يره كما صنع أهل البدع، فلا نصلى خلفه‏.‏

وقال أبو محمد الأصيلى‏:‏ ذكر العمامة فى هذا الحديث من خطأ الأوزاعى، لأن شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبى كثير، ولم يذكر العمامة، وتابعه حرب بن شداد، وأبان العطار، فهؤلاء ثلاثة من رواة يحيى بن أبى كثير خالفوا الأوزاعى، فوجب تغليب الجماعة على الواحد، وأما متابعة معمر للأوزاعى، فهى مرسلة، وليس فيها ذكر العمامة‏.‏

روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن عمرو بن أمية، قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه‏.‏

هكذا وقع فى مصنف عبد الرزاق، ولم يذكر العمامة، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من ابنه جعفر، فلا حجة فيهما‏.‏

وذكر ابن أبى خيثمة عن ابن معين أن حديث عمرو بن أمية فى المسح على العمامة مرسل‏.‏

واختلف العلماء فى المسح على العمامة، فممن كان يمسح عليها‏:‏ أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، وبه قال الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وممن كان لا يرى المسح عليها‏:‏ عَلىّ، وابن عمر، وجابر‏.‏

ومن التابعين‏:‏ عروة، والنخعى، والشعبى، والقاسم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43، المائدة‏:‏ 6‏]‏، ومن مسح على العمامة لم يمسح برأسه‏.‏

وأجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه فى التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس‏.‏

وقال ابن وهب، عن ابن جريج، عن عطاء بلغنا‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه ولا يحلها، ثم يمسح برأسه، ثم يعيد عمامته‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ حدثنا معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبى معقل، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة‏.‏

واختلف العلماء فى صفة المسح على الخفين، فذهب ابن عمر، وسعد بن أبى وقاص إلى أنَّ الكمال والسنة‏:‏ مسح أعلاهما وأسفلهما، وبه قال مالك، والشافعى‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لو مسح رجل ظاهر الخف، ثم صلى فأَحَبُّ إلىّ أن يعيد فى الوقت، لأن عروة كان لا يمسح بطونهما‏.‏

فهذا يدل على أنه إن اقتصر على الظهور دون البطون أنه يجزئه فى مذهب مالك‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إن الممسوح أعلى الخف، فإن أسفله ليس بمحل للمسح لا مسنونًا ولا جائزًا، وذكر أنه قول أنس بن مالك، وهو مذهب الشعبى، والنخعى، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة‏.‏

واحتجوا بما رووه عن المغيرة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح على ظهور خفيه‏.‏

والذى ذكر البخارى فى هذا الباب عن سعد، والمغيرة‏:‏ أن النبى مسح على الخفين‏.‏

دون ذكر أعلاهما أو أسفلهما، وهذا لفظ محتمل للتأويل أن يفعل فى الخف ما يسمى مسحًا إلا أن الصحابة مجمعة أنه إن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه، وهو قول فقهاء الأمصار‏.‏

وذكر المزنى عن الشافعى أنه يجوز الاقتصار على أسفل الخف دون أعلاه، وذكره ابن عبد الحكم، عن أشهب‏.‏

واختلفوا فى الخف المخرق يمسح عليه‏؟‏‏.‏

فقال مالك‏:‏ يمسح إذا كان خَرْقًا يسيرًا لا يظهر منه القدم‏.‏

وقال بعض أصحابه‏:‏ معناه أن يكون الخرق لا يمنع من لبسه والانتفاع به‏.‏

وهو قول الليث، والشافعى‏.‏

وقال الثورى‏:‏ يمسح وإن تفاحش خرقه، وما دام يسمى خُفّا، وقد كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق، وهو قول أبى ثور، وإسحاق‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ يمسح الخُفَّ وما ظهر من القدم، وهو قول الطبرى فى جواز المسح على القدمين‏.‏

وقال الحسن بن حى‏:‏ يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شىء من القدم لم يمسح‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يمسح إذا ظهر من الرِّجْل أقل من ثلاثة أصابع، ولا يمسح إذا ظهر ثلاثة أصابع‏.‏

باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَان

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ‏:‏ تمت دَعْهُمَا فَإِنِّى أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ-، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ من هذا الحديث قال مالك وجميع الفقهاء أنه من لبس خفيه على غير طهارة أنه لا يمسح عليهما، لقوله‏:‏ تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما-‏.‏

وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم السبب الذى يبيح المسح على الخفين، وهو إدخاله لرجليه وهما طاهرتان بطهر الوضوء‏.‏

واختلفوا فيمن قدم غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أتم وضوءه هل له أن يمسح عليهما إن أحدث‏؟‏‏.‏

فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ لا يجوز له أن يمسح عليهما حتى يكون طاهرًا الطهارة التامة قبل لبسهما، أو لبس أحدهما، وحجتهم ظاهر الحديث‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى، والمزنى‏:‏ يجوز له المسح عليهما، وكذلك إذا غسل إحدى رجليه ولبس، وهو قول مطرف من أصحاب مالك‏.‏

وحديث المغيرة يرد هذا القول، لقوله‏:‏ تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين-‏.‏

فجعل العلة فى جواز المسح وجود اللبس والرجلان طاهرتان بطهر الوضوء‏.‏

واحتج الطحاوى للكوفيين، فقال‏:‏ يجوز أن يقال‏:‏ إن رجليه طاهرتان إذا غسلهما، وإن لم يكمل الطهارة، كما يقال‏:‏ صلى ركعة، وإن لم تتم صلاته‏.‏

وقال آخرون منهم‏:‏ وإنما يراعى الحدث، والحدث لا يرد إلا على طهارة كاملة، فهو كمن لم يقدم رجليه‏.‏

وحجة مالك أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته، فكأنه لبسهما قبل غسل الرجلين بدليل الحديث‏.‏

ومن هذه المسألة تفرع الجواب، فيمن لبس الخف اليمنى قبل أن يغسل الرجل اليسرى‏.‏

فعند مالك والشافعى، وأحمد وإسحاق‏:‏ لا يمسح، لأنه لبس الخف الأولى قبل تمام طهارته‏.‏

وقال الثورى، وأبو حنيفة، والمزنى‏:‏ يجوز له أن يمسح عليهما، وهو قول مطرف‏.‏

وقال سحنون‏:‏ لا يمسح إلا أن يخلع اليمنى فقط‏.‏

وأجمعوا أنه لو نزع الخف الأولى، ثم لبسهما بعد، جاز له المسح‏.‏

واختلفوا فيمن نزع خفيه بعد المسح عليهما‏:‏ فقال النخعى، ومكحول، والأوزاعى فى رواية‏:‏ يعيد الوضوء، وهو قول أحمد، وإسحاق‏.‏

وقال الكوفيون، والمزنى، وأبو ثور‏:‏ يغسل قدميه، وعن الأوزاعى مثله‏.‏

واختلف قول الشافعى مثل قول الأوزاعى، فمرة قال‏:‏ يتوضأ، ومرة قال‏:‏ يغسل قدميه‏.‏

وقال مالك، والليث‏:‏ يغسل رجليه مكانه، فإن تطاول أعاد الوضوء‏.‏

وقال الحسن البصرى، وابن أبى ليلى، وقتادة، ورواية عن النخعى‏:‏ إذا نزع خفيه بعد المسح صلى، وليس عليه شىء‏.‏

وحجة هذا القول‏:‏ الإجماع على أنه من مسح برأسه فى الوضوء، ثم حلقه أنه لا يستأنف مسحه فكذلك رجليه‏.‏

وإن نزع أحد خفيه بعد المسح، فقال مالك والليث، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ يغسل رجليه جميعًا‏.‏

وروى عن الثورى أنه قال‏:‏ كان بعضهم يقول‏:‏ يغسل إحدى رجليه، وهى رواية المعافري، عن الثوري‏.‏

وروى أشهب، عن مالك‏:‏ أنه يجزئه غسل تلك الرجل فقط، وروى عيسى، عن ابن القاسم مثله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه المسح فى السفر بغير توقيت، واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك، والليث‏:‏ لا وقت للمسح على الخفين، وللمسافر والمقيم أن يمسح ما بدا له، وروى هذا عن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبى وقاص، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى‏.‏

وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد‏:‏ يمسح المقيم يومًا وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، ورووا فى ذلك آثارًا كثيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم وصححها قوم، ودفعها آخرون‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدى‏:‏ حديثان لا أصل لهما‏:‏ التوقيت فى المسح، والتسليمتان‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث المغيرة خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يؤمر بها، لقوله‏:‏ تمت أهويت لأنزع خفيه-‏.‏

قال غيره‏:‏ وفيه إمكان الفهم عن الإشارة، ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة، لأن المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم عنه صلى الله عليه وسلم ما أراد فأفتاه بأنه يجزئه المسح‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ

وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ لحمًا، وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا - فيه‏:‏ ابن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ‏.‏

رواه عمرو بن أمية عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

واختلف السلف قديمًا فى هذه المسألة، فذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من أكل ما غيرت النار وهم‏:‏ عائشة وأم حبيبة زوجا النبى صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، واختلف فى ذلك عن ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس، وبه قال خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن المنكدر، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء كلهم مدنيون‏.‏

وقال به أهل العرق‏:‏ أبو قلابة، والحسن البصرى، وأبو مجلز، وذهبوا فى ذلك إلى ما روى ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن عبد الملك بن أبى بكر، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ تمت توضئوا مما غيرت النار-‏.‏

وبما رواه ابن شهاب، عن سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان أنه سأل عروة عن ذلك فقال‏:‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت توضئوا مما غيرت النار-‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يتوضأ مما مست النار، وممن قال بذلك‏:‏ أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطابن وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو أمامة، وأُبىّ بن كعب، وأبو الدرداء‏.‏

وهو قول مالك، والثورى فى أهل الكوفة، والأوزاعى فى أهل الشام، والشافعى، وأحمد، وأسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بحديث هذا الباب أن النبى صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وقالوا‏:‏ هذا كان آخر الأمرين من رسول الله‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والدليل على ذلك ما حدثنا أبو زرعة الدمشقى، حدثنا على بن عياش، حدثنا سعيد بن أبى حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار‏.‏

وحدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم أكل ثور أقط يومًا فتوضأ، ثم أكل كتفًا فصلى ولم يتوضأ‏.‏

فثبت أن آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار وأنه ناسخ لما قبله‏.‏

وقال حماد بن زيد‏:‏ سمعت خالدًا الحذاء يقول‏:‏ كانوا يرون أن الناسخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أبو بكر وعمر‏.‏

وقال حماد‏:‏ سمعت أيوب، قلت لعثمان البتى‏:‏ إذا سمعت أبدًا اختلافًا عن النبى صلى الله عليه وسلم فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد عليه يدك‏.‏

وروى محمد بن الحسن، عن مالك، قال‏:‏ إذا جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان فى ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ كان محكول يتوضأ مما مست النار، فلقى عطاء بن أبى رباح فأخبره أن أبا بكر الصديق أكل كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ، فترك مكحول الوضوء فقيل له‏:‏ تركت الوضوء‏؟‏ فقال‏:‏ لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله‏.‏

وقد ذهب قوم ممن تكلم فى غريب الحديث إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت توضئوا مما غيرت النار- أنه عنى به غسل اليد، وهذا لا معنى له، ولو كان كما ظن لكان دسم ما لم تغيره النار وغيره لا تغسل منه اليد، وهذا يدل على قلة علمه بما جاء عن السلف فى ذلك من التنازع فى إيجاب الوضوء واختلاف الآثار فى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ والحجة فى ذلك من جهة النظر أنا رأينا أن كل ما مسته النار أن أكلها قبل مماسة النار إياها لا ينقض الوضوء، فأردنا أن ننظر هل للنار حكم يجب فى الأشياء إذا مستها النار فينقل حكمها إليها‏؟‏ فرأينا الماء طاهرًا يؤدى به الفرض، ثم رأيناه إذا سخن أن حكمه فى الطهارة على ما كان عليه قبل مماسة النار له، فكان فى النظر أن الطعام الطاهر الذى لا يكون أكله قبل مماسة النار حدثا، إذا مسته النار لا تنقله عن حاله ولا تغير حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس النار كحكمه قبل ذلك، قياسًا ونظرًا‏.‏

وفرق أحمد بن حنبل وإسحاق بين أكل لحوم الإبل وغيرها، فقالا‏:‏ إن أكل لحوم الإبل نيئًا أو مطبوخًا فعليه الوضوء‏.‏

واحتج أحمد بما رواه سفيان، عن سماك، عن جعفر بن أبى ثور، عن جابر بن سمرة، قال‏:‏ سئل النبى صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الإبل‏؟‏ فقال‏:‏ تمت نعم- فقيل‏:‏ أفنتوضأ من لحوم الغنم‏؟‏ قال‏:‏ تمت لا-‏.‏

وهذا لو صح، لكان منسوخًا بما ذكرنا أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار‏.‏

وقد يحتمل أن يكون الوضوء محمولا على الاستحباب والنظافة لشهوكة الإبل لا على الإيجاب، لأن تناول الأشياء النجسة مثل الميتة والدم ولحم الخنزير لا ينقص الوضوء فلأن لا توجبه الأشياء الطاهرة أولى‏.‏

باب مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

- فيه‏:‏ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّىَ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عَنْدَ مَيْمُونَةَ كَتِفًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث سويد أن النبى صلى الله عليه وسلم مضمض من السويق، وليس فى حديث ابن عباس ذكر المضمضة ولا فى واحد من الحديثين، أنه صلى الله عليه وسلم غسل يده من ذلك، فمباح للإنسان أن يغفل من ذلك ما شاء‏.‏

قال‏:‏ ومعنى المضمضة من السويق، وإن كان لا دسم له، أنه تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحى الفم، فيشتغل تتبعه بلسانه المصلى عن صلاته‏.‏

قال غيره‏:‏ فى حديث سويد من الفقه إباحة اتخاذ الزاد فى السفر، وفى ذلك رد على الصوفية الذين يقولون‏:‏ لا يدخر لغده‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ نظر الإمام لأهل العسكر عن قلة الأزواد وجمعها، ليقوت من لا زاد معه من أصحابه‏.‏

وفيه‏:‏ أن القوم إذا فنى أكثر زادهم فوجب أن يتواسوا فى زاد من بقى من زاده شىء، فإن أراد الذى بقى من زاده أن يأخذ فيه الثمن فذلك له إن كان عند القوم ثمن، وإن كان ثمنه قدرًا اجتهد فيه بلا بدل، فإن لم يكن عندهم ثمن فواجب عليهم أن يتواسوا إلى أن يخرجوا من سفرهم إلى موضع يجدون الزاد فيه، لأن على المسلم أن يواسى أخاه، وقد جاء فى الحديث‏:‏ تمت لا يحل لمسلم أن يعلم أن جاره طاوٍ إلى جنبه وهو شبعان لا يرفقه بما يمسك مهجته-‏.‏

وفيه‏:‏ أن للسلطان أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام إلى الأسواق عند قلته، فيبيعونه من أهل الحاجة بسعر ذلك اليوم‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فثرى- يعنى بُلَّ بالماء، لما كان لحقه من اليبس والقدم، ومنه قيل للثرى‏:‏ ثرى، لرطوبته‏.‏

وقال صاحب تمت الأفعال- يقال‏:‏ ثريت الأرض وأثرت إذا وصل ندى المطر إلى ثراها‏.‏

باب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا، فَمَضْمَضَ، وَقَالَ‏:‏ تمت إِنَّ لَهُ دَسَمًا-‏.‏

قال‏:‏ المهلب‏:‏ تمت إن له دسمًا- قد بين العلة التى من أجلها أمروا بالوضوء مما مست النار فى أول الإسلام، وذلك، والله أعلم، على ما كانوا عليه من قلة التنظف فى الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت فى الإسلام، نسخ الوضوء، تيسيرًا على المؤمنين‏.‏

وفيه‏:‏ أن مضمضة الفم عند أكل الطعام من أدب الأكل‏.‏

باب الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوِ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا

- فيه عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّى فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ رَاقِدٌ، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ ‏[‏فِى الصَّلاةِ‏]‏، فَلْيَنَمْ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إذا نعس أحدكم فليرقد-، هو فى صلاة الليل، لأن صلوات الفرض ليست من نهاية الطول، ولا فى أوقات النوم فيحدث فيها مثل هذا، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم العلة الموجبة لقطع الصلاة، وذلك أنه خاف عليه إذا غلب عليه النوم أن يخلط الاستغفار بالسب‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومن صار فى مثل هذه الحال من ثِقَلِ النوم فقد انتقض وضوءه بإجماع، فأشبه من نهاه الله تعالى عن مقاربة الصلاة فى حال السكر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وقد قال الضحاك فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ سُكَارَى ‏(‏أنه النوم‏.‏

والأكثر أنها نزلت فى سكر الخمر، وبَيَّن حديث عائشة، وحديث أنس فى هذا أن المعنى واحد، لأن من أراد أن يستغفر ربه فيسب نفسه، فقد حصل من فقد العقل فى منزلة من لا يعلم ما يقول من سكر الخمر التى نهى الله تعالى عن مقاربة الصلاة فيها، ومن كان كذلك فلا تجوز صلاته، لأنه فقد عقله الذى خاطب الله أهله بالصلاة والفرائض، ورفع الخطاب بذلك والتكليف عمن عدمه‏.‏

ودلت الآية على ما دل عليه الحديثان، أنه لا ينبغى للمصلى أن يقرب الصلاة مع شاغل له عنها، أو حائل بينه وبينها، لتكون همه لا هم له غيرها، وأن من استثقل نومه فعليه الوضوء، وهذا يدل أن النوم اليسير بخلاف ذلك‏.‏

وأجمع الفقهاء على أن النوم القليل الذى لا يزيل العقل لا ينقض الوضوء، إلا المزنى وحده، فإنه جعل قليل النوم وكثيره حدثًا، وخرق الإجماع‏.‏

وكذلك أجمعوا أن نوم المضطجع ينقض الوضوء‏.‏

واختلفوا فى هيئات النائمين، فقال مالك‏:‏ من نام قائمًا أو راكعًا، أو ساجدًا فعليه الوضوء‏.‏

وفرق الشافعى بين نومه فى الصلاة وغيرها، فقال‏:‏ إن كان فى الصلاة لا ينقض، كما لا ينقض نوم القاعد، وله قول آخر كقول مالك‏.‏

وعند الثورى وأبى حنيفة‏:‏ لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط، واحتجوا بما روى أبو خالد الدالانى، عن قتادة، عن أبى العالية، عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم نام فى سجوده ونفخ، فقيل له‏:‏ يا رسول الله، نمت فى سجودك وصليت، ولم تتوضأ‏؟‏ فقال‏:‏ تمت إنما الوضوء على من نام مضطجعًا-‏.‏

وهذا حديث منكر، قد ضعفه ابن حنبل وأبو داود، وقال أحمد‏:‏ ما لأبى خالد يُدخِل نفسه فى أصحاب قتادة، ولم يلقه‏؟‏‏.‏

وأيضًا لم يروه أحد من أصحاب قتادة عنه، وقيل‏:‏ لم يسمع قتادة من أبى العالية إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها‏.‏

والقائم والراكع والساجد يمكن خروج الريح منه، لانفراج موضع الحدث منه، ولا يشبه القاعد المنضم الأطراف إلا أن يطول نومه جدًا فى حال قعوده، فعليه الوضوء عند مالك، والأوزاعى، وأحمد‏.‏

ولم يفرق أبو حنيفة والشافعى بين نوم الجالس فى القِلَّة والكَثْرَة، وقالا‏:‏ لا ينتقض وضوءه وإن طال‏.‏

ويرد قولهم‏:‏ أنه إذا طال نومه جدًا فى حال قعوده فهو شاك فى الطهارة، وقد أُخِذَ عليه أن يدخل الصلاة بيقين طهارة، وهذا قد زال يقينه، فعليه الوضوء، وسيأتى إن شاء الله فى كتاب الصلاة، فى باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه شىء من معنى هذا الباب‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فمن أين يخرج من هذا الباب قوله فى الترجمة‏:‏ ومن لم ير من النعسة والنعستين والخفقة وضوءًا‏؟‏ قيل له‏:‏ يخرج من معنى الحديث، لأنه لما أوجب صلى الله عليه وسلم قطع الصلاة بغلبة النوم والاستغراق فيه، دل أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك ولم يغلب عليه أنه معفو عنه، لا وضوء فيه، على ما يذهب إليه الجمهور‏.‏

باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ‏.‏

- وفيه‏:‏ سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ يوم خَيْبَرَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ‏.‏

فيه‏:‏ أن الوضوء من غير حدث ليس بواجب، وقد بين ذلك أنس بقوله‏:‏ تمت يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث-‏.‏

وعليه الفقهاء والناس، ويشهد لصحة قول أنس فى ذلك صلاته صلى الله عليه وسلم يوم خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد فى حديث سويد، وإنما فعل ذلك ليُرى أمته أن ما يلتزمه صلى الله عليه وسلم فى خاصته من الوضوء لكل صلاة ليس بلازم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الوضوء‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ الوضوء عن غير حدث نور على نور‏.‏

فمن أراد الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فى جميع ذلك فمباح، وكان ابن عمر يلتزم اتباعه صلى الله عليه وسلم فى جميع أفعاله، ويتوخى المواضع التى صلى فيها، فيصلى فيها حتى أنه كان يدير ناقته فى المواضع التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير ناقته فيها، حبًا للاقتداء به ورغبةً فى امتثال أفعاله صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِى قُبُورِهِمَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ-، ثُمَّ قَالَ‏:‏ تمت بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏- الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ تمت وما يعذبان فى كبير-، يعنى عندكم، وهو كبير عند الله يدل على ذلك قوله‏:‏ تمت بلى- أى بلى إنه لكبير عند الله وهو كقوله‏:‏ تمت إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ حيث ما بلغت، يكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه-‏.‏

ومصداق هذا المعنى فى كتاب الله‏:‏ ‏(‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 15‏]‏‏.‏

واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى تُغْفر الصغائر باجتنابها، فقال بعضهم‏:‏ الكبائر سبع، وقال آخرون‏:‏ هى تسع، وقال آخرون‏:‏ كل ما نهى الله عنه فهو كبير‏.‏

وقيل‏:‏ كل ما عُصى الله به فهو كبير‏.‏

هذا قول الأشعرية، ويحتمل أن يحتجوا بهذا الحديث، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كبير، وأن صاحبه يعذب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم عليها وعيد‏.‏

وخالفهم الفقهاء وأهل تأويل القرآن فى ذلك، وفرَّقوا بين الكبائر والصغائر‏.‏

وقد تقصيت مذاهب العلماء فيه، وما نزع به كل فريق فى كتاب الأدب، فهو أولى به‏.‏

وروى هذا عن على بن أبى طالب، وعبيد بن عمير، وعطاء، واحتجوا بآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ الكبائر تسع، روى هذا عن عبد الله بن عمر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب، فهو كبير‏.‏

روى هذا عن ابن عباس‏.‏

وروى عنه‏:‏ كل ما نهى الله عنه فهو كبير، قال‏:‏ ومنها النظرة‏.‏

وقال مرة‏:‏ كل شىء عُصى الله به فهو كبير‏.‏

وقال طاوس‏:‏ قيل لابن عباس‏:‏ الكبائر سبع‏؟‏ قال‏:‏ هى إلى السبعين أقرب‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ الكبائر سبع‏؟‏ قال‏:‏ هى إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار‏.‏

وذهب أهل التأويل إلى أن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر، وخالفهم فى ذلك الأشعرية، وسيأتى بيان قولهم وما نزع إليه كل فريق منهم فى كتاب الأدب، إن شاء الله‏.‏

إلا أن قوله‏:‏ تمت يُعذبان وما يُعذبان فى كبير- حجة لقول ابن عباس، أن ما عُصى الله به فهو كبير، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أخبر أنه كبير، وأن صاحبه يُعذب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم عليها وعيد‏.‏

قال أبو بكر الصديق‏:‏ إن الله يغفر الكبير فلا تيئسوا، ويُعذب على الصغير فلا تغتروا‏.‏

وفى حديث ابن عباس‏:‏ أن عذاب القبر حق، يجب الإيمان به والتسليم له، وهو مذهب أهل السنة‏.‏

وسيأتى فى كتاب الجنائز شىء من معنى هذا الحديث، إن شاء الله‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى غَسْلِ الْبَوْلِ

قَالَ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِب الْقَبْرِ‏:‏ تمت كَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ-، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَبَرَّزَ، أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ، فَيَغْسِلُ بِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ تمت إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏- الحديث‏.‏

أجمع الفقهاء على نجاسة البول والتنزه عنه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت كان لا يستتر من بوله-، يعنى أنه كان لا يستر جسده ولا ثيابه من مماسة البول، فلما عُذب على استخفافه لغسله والتحرز منه، دل أنه من ترك البول فى مخرجه، ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب‏.‏

وقد روى غير البخارى فى مكان تمت يستتر من بوله-‏:‏ تمت يستبرئ من بوله-، معنى لا يستبرئ‏:‏ لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج منه بعد وضوئه فيصل غير متطهر‏.‏

ذكر عبد الرزاق هذا الحديث وقال فيه‏:‏ تمت أما أحدهما فكان لا يتنزه عن البول-‏.‏

ورواه أيضًا‏:‏ تمت أما هذا كان لا يتأذى ببوله-‏.‏

هذه الروايات كلها معناها متقارب، واختلف الفقهاء فى إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك‏:‏ إزالتها ليست بفرض‏.‏

وقال بعض أصحابه‏:‏ إزالتها فرض، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، إلا أن أبا حنيفة يعتبر فى النجاسات ما زاد على مقدار الدرهم‏.‏

وحجة من أوجب إزالة النجاسة‏:‏ أنه أخبر صلى الله عليه وسلم عن صاحب القبر‏:‏ أنه يُعذب بسب البول، وذلك وعيد وتحذير، فثبت أن الإزالة فرض‏.‏

واحتج ابن القصار بقول مالك، فقال‏:‏ يحتمل صاحب القبر الذى عُذب فى البول أنه كان يدع البول يسيل عليه، فيصلى بغير طهر، لأن الوضوء لا يصح مع وجوده، ومحتمل أن يفعله على عمد لغير عذر، لأنه قد روى تمت لا يستبرئ-، و تمت لا يستنزه-، وعندنا أن من تعمد ترك سنن النبى صلى الله عليه وسلم بغير عذر ولا تأويل أنه مُتَوَعَّد مأثوم، فأما إذا لم يتعمد ذلك، وتركها متأولا أو لعذر، فصلاته صحيحة تامة‏.‏

وقول البخارى‏:‏ تمت ولم يذكر سوى بول الناس-، فإنه أراد أن يبين أن معنى روايته فى هذا الباب‏:‏ تمت أما أحدهما فكن لا يستتر من البول-، أن المراد بول الناس لا بول سائر الحيوان، لأنه قد روى الحديث فى هذا الباب قبل هذا وغيره تمت لا يستتر من بوله-، فلا تعلق فى حديث هذا الباب لمن احتج به فى نجاسة بول سائر الحيوان‏.‏

باب تَرْكِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ الأعْرَابِىَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِى الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ تمت دَعُوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ، دَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ-‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الرفق بالجاهل، لأنه لو قطع عليه بوله لأصاب ثوبه البول وتنجس، وكذلك وصَفهُ الله أنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنه على خلق عظيم، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إنما بعثتم مُيسرين-، وفعل ذلك استئلافًا للأعراب الذين أخبر الله عنهم أنهم أشد كفرًا ونفاقًا، وأيضًا فإن ما جناه الأعرابى اسْتُدرِكَ غسله بالماء‏.‏

وفيه‏:‏ تطهير المساجد من النجاسات وتنزيهها عن الأقذار‏.‏

باب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِى الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَامَ أَعْرَابِىٌّ، فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، مثله‏.‏

فى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أن الماء إذا غلب على النجاسة، ولم يظهر فيه شىء منها فقد طهرها، وأنه لا يضر ممازجة الماء لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً، أو كثيرًا‏.‏

واختلف العلماء فى ذلك، فذهب مالك فى رواية المدنيين عنه‏:‏ أن الماء الذى تحله النجاسة إذا لم يتغير طعمه، أو لونه، أو ريحه، فهو طاهر، قليلاً كان الماء، أو كثيرًا، وبه قال النخعى، والحسن، وابن المسيب، وربيعة، وابن شهاب، وفقهاء المدينة‏.‏

وذهب الكوفيون إلى أن النجاسة تفسد قليل الماء وكثيره، إلا الماء المستبحر الكثير الذى لا يقدر أحد على تحريك جميعه قياسًا على البحر الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت هو الطهور ماؤه الحل ميتته-‏.‏

وذهب الشافعى إلى أن الماء إن كان دون قلتين نجَس، وإن لم يتغير، وإن كان قلتين فصاعدًا لم ينجُس إلا بالتغير، وبه قال أحمد، وإسحاق‏.‏

ولابن القاسم، عن مالك أن قليل النجاسة يُفسد قليل الماء، وإن لم تغيره، ولم يعتبر القلتين‏.‏

وحديث بول الأعرابى فى المسجد يرد حديث القلتين، لأن الدلو أقل من القلتين، وقد طهر موضع بول الأعرابى، ويرد أيضًا على أبى حنيفة أصله فى اعتباره الماء المستبحر‏.‏

وقال النسائى‏:‏ لا يثبت فى انتجاس الماء إلا حديث بول الأعرابى فى المسجد، إلا أن أصحاب الشافعى لما لزمتهم الحجة به فزعوا إلى التفريق بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء، فراعوا فى ورودها عليه مقدار القلتين، ولم يراعوا فى وروده عليها ذلك المقدار‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وهذا لا معنى له، لأنه قد تقرر أن الماء إذا ورد على النجاسة لم ينجس إلا أن يتغير، فكذلك يجب إذا وردت النجاسة على الماء لا ينجس إلا أن يتغير، إذ لا فرق بين الموضعين‏.‏

قال‏:‏ ومما يَردُّ اعتبار الكوفيين والشافعى، أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بصب الذنوب على بول الأعرابى فى المسجد، وقد علمنا أنه إنما أراد تطهير المكان بهذا المقدار من الماء ولا يطهر إلا بزوال النجاسة ولم تزُل إلا بغلبة الماء الذى هو دون المقدار الذى يعتبره أبو حنيفة، والشافعى، ومعلوم أن هذا المقدار من الماء لا يزيل النجس إلا وقد حل فيه النجس أو بعضه، وإذا حصل فيه النجس لم يكن بد أن يُحكم له بالطهارة، لأنه لو لم يطهر لكان نجسًا، ولو كان نجسًا لما أزال النجاسة عن الموضع، لأنه كلما لاقى النجسُ الماءَ نَجَّسه، فأدى ذلك إلى أن لا تزول نجاسة ولا يطهر المكان‏.‏

واختلفوا فى تطهير الأرض من البول والنجاسة، فقال مالك والشافعى وأبو ثور‏:‏ لا يطهرها إلا الماء، واحتجوا بحديث بول الأعرابى‏.‏

وروى عن أبى قلابة، والحسن البصرى، وابن الحنفية، أنهم قالوا‏:‏ جفوف الأرض طهورها، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، قالوا‏:‏ الشمس تزيل النجاسة، فإذا ذهب أثرها صل فيها ولا تتيمم‏.‏

وقال الثورى‏:‏ إذا جف فلا بأس بالصلاة عليه‏.‏

وعند مالك وزفر‏:‏ لا يجزئه أن يصلى عليها إلا أن مالكًا، قال‏:‏ يعيد فى الوقت، وكذلك قال إذا تيمم به‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واختلفوا فيما يجوز به إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك‏:‏ لا يطهر ذلك إلا الماء الذى يجوز به الوضوء‏.‏

وهو قول زفر، ومحمد بن الحسن، والشافعى‏.‏

والحجة لهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏، وأمرُهُ صلى الله عليه وسلم بصب الدلو على بول الأعرابى فى المسجد‏.‏

قالوا‏:‏ فكذلك حكم الأبدان والثياب‏.‏

وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف‏:‏ تجوز إزالة النجاسة بكل مائع، وكل طاهر، والنار، والشمس، ولو أن جلد الميتة جف فى الشمس طهر من غير دباغ، واحتجوا على إزالة النجاسات بالمائعات، فقالوا‏:‏ الخمر إذا انقلبت خلا فقد طهرت هى والدن جميعًا‏.‏

ونحن نعلم أن الخمر كانت نجسة، والدن نجس، ولم يطهره إلا الخل‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال لهم‏:‏ إن الدن جامد وكان طاهرًا قبل حدوث الشدة فى الخمر، وإنما حصلت على وجهه أجزاء نجاسة من الخمر، فإذا انقلبت الخمر خلا انقلبت تلك الأجزاء خلا، فلم تزل بالخل، وإنما انقلبت كما انقلب نفس الخمر‏.‏

ونظير مسألتنا أن يصب الثوب نجاسة فتنقلب عينها فتصير طاهرة، فنقول‏:‏ إن هذا لا يحتاج إلى غسل، ثم نقول‏:‏ إن الدن لو كان إنما طهر بالخل على طريق الغسل لوجب ألا يحكم بطهارته ولا بطهارة الخل، ألا ترى لو أن إناء فيه بول أو دم فصب عليه الخل حتى ملأ الدن، فإن الخل ينجس ولا يطهر الإناء‏؟‏‏.‏

فعلمنا أن الدن لم يطهر يكون الخل فيه، وإنما طهر بانقلاب عينه، ومن مذهبهم أن الماء الذى تغسل به النجاسة يكون نجسًا، فكيف بالخلِّ‏؟‏ ولو طهر الدن بغسل الخل له لنجس الخل، ألا ترى أنه لو كان الدن نجسًا بالخمر، ثم غسل بخلِّ آخر لم يطهر ولنجس الخل‏؟‏‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ تمت السَّجْل-، مذكر الدلو ملأى ماءً، ولا يقال لها وهى فارغة‏:‏ سجل، فإذا لم يكن فيها ماء فهى دلو، وثلاثة أسجل، وهو السجال‏.‏

ابن دريد‏:‏ ودلو‏:‏ سجل واسعة‏.‏

يعقوب، عن ابن مهدى‏:‏ دلو سجيلة، والذنوب الدلو الملأى، عن الخليل‏.‏

باب بَوْلِ الصِّبْيَان

- فيه‏:‏ عَائِشَة، قَالَتْ‏:‏ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِىٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ انتهى آخر حديث أم قيس إلى قوله‏:‏ تمت فنضحه-، وقوله‏:‏ تمت فلم يغسله- من قول ابن شهاب، وقد رواه معمر، عن ابن شهاب، فقال فيه‏:‏ تمت فنضحه-، ولم يزد، وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عيينة، عن ابن شهاب، فقال فيه‏:‏ تمت فدعا بماءٍ فرشه-، ولم يزد‏.‏

واختلف العلماء فى بول الصبى، فقالت طائفة‏:‏ بوله طاهر قبل أن يأكل الطعام، روى هذا عن على بن أبى طالب، وأم سلمة، وعطاء، والحسن، والزهرى‏.‏

وهو قول الأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

والحجة لهم قوله فى حديث أم قيس‏:‏ تمت فنضحه، ولم يغسله-‏.‏

وفرق هؤلاء الفقهاء بين بول الصبى والصبية، فقالوا‏:‏ بول الصبية نجس، وإن لم تأكل الطعام بخلاف بول الصبى‏.‏

واحتجوا فى ذلك بما رواه هشام، عن قتادة، عن أبى حرب بن أبى الأسود، عن أبيه، عن على بن أبى طالب، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال فى الرضيع‏:‏ تمت يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام-‏.‏

وقالت طائفة أخرى‏:‏ بول الصبى والصبية نجس، سواء أكلا الطعام أم لا، هذا قول النخعى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، وأبو ثور‏.‏

واحتج لهم الطحاوى فقال‏:‏ أراد بالنضح فى هذا الحديث الغسل وصب الماء عليه، وقد تسمى العرب ذلك نضحًا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إنى لأعرف مدينة يقال لها‏:‏ عُمان ينضح البحر بناحيتها لو جاءهم رسولى ما رموه بحجر-‏.‏

فلم يعن بذلك النضح، الرش، ولكنه أراد يلزق بناحيتيها‏.‏

والدليل على صحة هذا‏:‏ أن عائشة روت حديث بول الصبى عن النبى صلى الله عليه وسلم فقالت فيه‏:‏ تمت فدعا بماءٍ فأتبعه إياه-، ولم تقل‏:‏ فلم يغسله‏.‏

رواه مالك، وأبو معاوية، عن هشام بن عروة‏.‏

وهكذا رواه زائدة، عن هشام بن عروة، وقال فيه‏:‏ تمت فدعا بماءٍ، فنضحه عليه-‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وإتباع الماء حكمه حكم الغسل، ألا ترى لو أن رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها أن ثوبه قد طهر‏؟‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والنضح فى معنى الغسل فى قوله صلى الله عليه وسلم للمقداد‏:‏ تمت انضح فرجك-، وكما قال فى حديث أسماء فى غسل الدم‏:‏ تمت انضحيه-، فجعل النضح عبارة عن الغسل‏.‏

قال المهلب‏:‏ والدليل على أن النضح يراد به كثرة الصب والغسل، قول العرب للجمل الذى يستخرج به الماء من الأرض‏:‏ ناضح‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد أجمع المسلمون على أنه لا فرق بين بول الرجل، وبول المرأة فى نجاسته، كذلك بول الغلام والجارية‏.‏

قال المهلب‏:‏ واللبن الذى قد رضعه الصبى هو طعام، وإنما قال فى الحديث‏:‏ تمت لم يأكل الطعام-، ليحكى القصة كما وقعت، لا للفرق بين اللبن والطعام‏.‏

وقال جماعة من العلماء‏:‏ حديث عائشة، وحديث أم قيس أصل فى غسل البول من الثياب والجسد وغيرهما‏.‏

باب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ أَتَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ‏.‏

فى نص الحديث جواز البول قائمًا، وأما البول قاعدًا فمن دليل الحديث، لأنه إذا جاز البول قائمًا فقاعدًا أجوز، لأنه أمكن‏.‏

واختلف العلماء فى البول قائمًا، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وأبى هريرة، وسعد بن عبادة‏:‏ أنهم بالوا قيامًا‏.‏

وروى مثله عن ابن المسيب، وابن سيرين، وعروة بن الزبير‏.‏

وكرهت طائفة البول قائمًا، ذكر ابن أبى شيبة، فى مصنفه إنكار عائشة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائمًا‏.‏

وعن عمر بن الخطاب، أنه قال‏:‏ ما بلت قائمًا منذ أسلمت‏.‏

وعن مجاهد أنه قال‏:‏ ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا قط إلا مرة فى كثيب أعجبه‏.‏

وروى عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ من الجفاء أن تبول وأنت قائم‏.‏

وهو قول الشعبى‏.‏

وكرهه الحسن، وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائمًا‏.‏

وفيه قول ثالث‏:‏ أن البول إذا كان فى مكان لا يتطاير عليه منه شىء فلا بأس به، وإن كان فى مكان يتطاير عليه، فهو مكروه‏.‏

هذا قول مالك، وهو دليل الحديث، لأنه صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائمًا‏.‏

والسباطة‏:‏ المزبلة، والبول فيها لا يكاد يتطاير منه كبير شىء، فلذلك بال قائمًا صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن كره البول قائمًا، فإنما كرهه خشية ما يتطاير إليه من بوله، ومن أجازه قائمًا، فإنما أجازه خوف ما يُحدثه البائل جالسًا فى الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه‏.‏

وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ البول قائمًا أحصن للمدبر‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال قائمًا لم يبعد عن الناس، ولا أبعدهم عن نفسه، بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائمًا‏.‏

وروى عنه صلى الله عليه وسلم من مرسل عطاء، وعبيد بن عمير، أنه بال جالسًا، فدنا منه رجل، فقال‏:‏ تمت تنح، فإن كل بائلة تُفِيخُ-‏.‏

ويُروَى‏:‏ تمت تفيس-‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ لا ينبغى لأحد يتقرب من الرجل يتغوط أو يبول جالسًا لقول النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت تنح، فإن كل بائلة تُفيخُ‏.‏

باب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، رَأَيْتُنِى أَنَا وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ، كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَىَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، حَتَّى فَرَغَ‏.‏

قال المروزى‏:‏ من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائمًا، لحديث حذيفة هذا، إذا أمن أن يرى منه عورة، وأما إن كان قاعدًا، فالسنة أن تبتعد عنه لئلا يفيخ كما رُوى عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فانتبذت منه-، إنما فعل ذلك حذيفة لئلا يسمع منه صلى الله عليه وسلم شيئًا مما يجرى فى الحدث، فلما بال قائمًا، وأمن عليه ما خشيه حذيفة أمره بالتقرب منه‏.‏

وفى قوله‏:‏ تمت فأشار إلىَّ فجئته-، يدل أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، وإنما بعد عنه وعينه تراه، لأنه كان يحرسه، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ خدمة العالم، قاله المهلب‏.‏

وفيه‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد قضاء حاجة الإنسان توارى عن أعين الناس بما يستره من حائطٍ أو شجر، وبذلك كان يأمر أمته صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ

- فيه‏:‏ أَبُو وَائِلٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ أَبُو مُوسَى الأشْعَرِىُّ يُشَدِّدُ فِى الْبَوْلِ، وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا‏.‏

تمت السباطة-‏:‏ المزبلة، والبول قائمًا لا يكاد يسلم مما يتطاير منه، قال أبو عبيد‏:‏ السباطة نحو الكناسة‏.‏

ابن دريد‏:‏ الكناسة‏:‏ ما كنس‏.‏

واختلف العلماء فى مقدار رءوس الإبر تتطاير من البول، فقال مالك، والشافعى، وأبو ثور‏:‏ يغسل قليله وكثيره‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ غسل ذلك عند مالك على سبيل الاستحسان والتنزه‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ ليس مقدار رءوس الإبر بشىء، وسهلوا فى يسير النجاسة‏.‏

وقال الثورى‏:‏ كانوا يرخصون فى القليل من البول‏.‏

وقول حذيفة‏:‏ تمت ليته أمسك-، يرد عليه تشديده فى البول، وهو حجة لمن رخص فى يسيره، لأن المعهود ممن بال قائمًا أن يتطاير إليه مثل رءوس الإبر‏.‏

وفيه‏:‏ يسر وسماحة، إذْ كان من قبلنا يقرض ما أصاب البول من ثوبه‏.‏

وحديث حذيفة موافق لمذهب الكوفيين‏.‏

باب غَسْلِ الدَّمِ

- فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَالَتْ‏:‏ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِى الثَّوْبِ، كَيْفَ تَصْنَعُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت تَحُتُّهُ وَتَقْرُصُهُ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ وَتُصَلِّى فِيهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضٍ-، إلى قوله‏:‏ تمت فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى-‏.‏

حديث أسماء أصل عند العلماء فى غسل النجاسات من الثياب‏.‏

وقوله‏:‏ تمت تَحُتُّ- يعنى تقرصه وتنقضه‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وقوله‏:‏ تمت تقرصه- يعنى تقطعه بالماء، وكل مقطع مقرص، يقال منه‏:‏ قرصت العجين إذا قطعته‏.‏

وقال غيره‏:‏ والنضح فى هذا الحديث يراد به الغسل‏.‏

وذلك معروف فى لغة العرب على ما تقدم بيانه فى باب بول الصبيان، والدليل على أن النضح فيه يراد به الغسل، قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبى حُبيش‏:‏ تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى-‏.‏

وهذا الحديث محمول عند العلماء على الدم الكثير، لأن الله تعالى شرط فى نجاسته أن يكون مسفوحًا، وكنى به عن الكثير الجاري‏.‏

إلا أن الفقهاء اختلفوا فى مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيون فيه وفى سائر النجاسات‏:‏ دون الدرهم فى الفرق بين قليله وكثيره، قياسًا على دور المخرج فى الاستنجاء بالحجارة‏.‏

وقال مالك‏:‏ قليل الدم معفو عنه، ويغسل قليل سائر النجاسات‏.‏

وروى عنه ابن وهب أن قليل دم الحيض يُغسل ككثيره، كسائر الأنجاس، بخلاف سائر الدماء‏.‏

وقال أشهب‏:‏ لم يحد مالك فى الدم قدر الدرهم‏.‏

وقال على بن زياد عنه‏:‏ إن قدر الدرهم ليس بواجب أن تعاد منه الصلاة، ولكن الكثير الفاشى‏.‏

وعند الشافعى‏:‏ أن يسير الدم يغسل كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرز منه‏.‏

والحجة لقول مالك‏:‏ أن يسير دم الحيض ككثيره قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء فى دم الحيض‏:‏ تمت حتيه ثم اقرصيه بالماء-، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، وقوله لفاطمة بنت أبى حُبيش‏:‏ تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى-، ولم يحدّ فيه مقدار درهم من غيره‏.‏

ووجه الرواية الأخرى‏:‏ أن قليل الدم معفو عنه هو أن يسير الدم موضع ضرورة، لأن الإنسان لا يخلو فى غالب حاله من بثرة، أو دمل، أو برغوث، أو ذباب، فعفى عن القليل منه، ولهذا حرم الله تعالى المسفوح منه، فدل أن غيره ليس بمحرم، ولم يستثن فى سائر النجاسات غير الدم أن تكون مسفوحة‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ لو حرم الله قليل الدم لتتبع الناس ما فى العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم والبرمة تعلوها الصفرة‏.‏

وليس الغالب من الناس كون الغائط، والبول فى ثيابهم، وأبدانهم، لأن التحرز يمكن منه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان أبو هريرة لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسًا فى الصلاة‏.‏

وتنخم ابن أبى أوفى دمًا فى صلاته‏.‏

وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها دم وقيح، فمسحه بيده، وصلى ولم يتوضأ‏.‏

وروى ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقتل القملة فى الصلاة‏.‏

ومعلوم أن فيها دمًا يسيرًا‏.‏

باب غَسْلِ الْمَنِىِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِى ثَوْبِهِ‏.‏

واختلف العلماء فى المنى هل هو نجس أم طاهر‏؟‏‏.‏

فذهب مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أن المنى نجس‏.‏

إلا أن مالكًا لا يجزئ عنده فى رطبه ويابسه إلا الغسل، والفرك عنده باطل‏.‏

وعند أبى حنيفة يغسل رطبه، ويفرك يابسه‏.‏

وقال الثورى‏:‏ إن لم يفركه أجزأته صلاته‏.‏

وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ المنى طاهر ويفركه من ثوبه، وإن لم يفركه فلا بأس‏.‏

وممن رأى فرك المنى‏:‏ سعد بن أبى وقاص، وابن عباس‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ امسحه بإذخر أو خرقة، ولا تغسله إن شئت‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج الذين قالوا بنجاسته من قول عائشة‏:‏ تمت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبى صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى ثوبه‏.‏

واحتج الذين قالوا أنه طاهر بآثار عن عائشة مخالفة لهذا الحديث، وذلك ما رواه شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن همام، عن الحارث، أنه نزل على عائشة، رضى الله عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه، فأخبرت بذلك عائشة، فقالت عائشة‏:‏ لقد رأيتنى مع النبى صلى الله عليه وسلم وما أزيد على أن أفركه فى ثوب النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى الأوزاعى، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت‏:‏ كنت أفرك المنى من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا‏.‏

وقال لهم أهل المقالة الأولى‏:‏ لا حجة لكم فى هذه الآثار، لأنها إنما جاءت فى ثياب ينام فيها، ولم تأت فى ثياب يصلى فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، وإنما تكون هذه الآثار حجة علينا لو كنا نقول‏:‏ لا يصلح النوم فى الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبى صلى الله عليه وسلم فيه ونقول من بعد‏:‏ لا تصلح الصلاة فيها، فلم نخالف شيئًا مما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك، وقد قالت عائشة‏:‏ تمت كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى ثوبه-‏.‏

فكانت تغسل المنى من ثوبه الذى يصلى فيه وتفركه من ثوبه الذى لا يصلى فيه‏.‏

واحتج عليهم الآخرون بما رواه حماد بن سلمة، عن حماد بن زيد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت‏:‏ كنت أفركه من ثوب النبى صلى الله عليه وسلم ثم يصلى فيه‏.‏

قالوا‏:‏ فدل ذلك على طهارته‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولا يدل ذلك على طهارته كما زعموا، فقد يجوز أن يفعل ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فيتطهر بذلك الثوب‏.‏

والمنى فى نفسه نجس كما روى فيما أصاب النعلين من الأذى‏.‏

روى محمد بن عجلان، عن المغيرة، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، أو بنعليه، فطهورهما التراب-‏.‏

فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس ذلك دليل على طهارة الأذى فى نفسه، فكذلك المنى يطهر الثوب بالفرك، والمنى فى نفسه نجس‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وأما دلائل القياس‏:‏ فقد اتفقنا على نجاسة المذى، فكذلك المنى بعلة أنه خارج من مخرج البول‏.‏

فإن قالوا‏:‏ هو طاهر، لأنه خلق منه حيوان طاهر‏.‏

قيل‏:‏ قد يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس كاللبن، فإنه يتولد عن الدم‏.‏

فإن قالوا‏:‏ خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا‏.‏

قيل‏:‏ وكذلك خلق منه الفراعنة والطغاة فوجب أن يكون نجسًا، يتولد عن الشهوة يجب فيه الغسل‏.‏

فإن قالوا‏:‏ يعارض قياسكم بقياس آخر، فتقول‏:‏ اتفقنا على محة البيضة أنها طاهرة، فكذلك المنى بعلة أنه مائع خلق منه حيوان طاهر‏.‏

قيل‏:‏ ذلك لا يلزم، لأنا قد اتفقنا أنه يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس كاللبن، فإنه متولد عن الدم، وقيل‏:‏ إنه دم كما يكون طاهرًا ويستحيل إلى النجس كالغذاء والماء فى جوف ابن آدم، وقد قيل‏:‏ إن العلقة المتولدة عن المنى من دم نجس‏.‏

فإن قالوا‏:‏ خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا‏.‏

قيل‏:‏ لو جاز أن يكون طاهرًا، لأن الأنبياء خلقوا منه لوجب أن يكون نجسًا، لأن الفراعنة والطغاة خلقوا منه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن الله خلق آدم من ماء وطين، وهما طاهران فوجب أن يكون طاهرًا‏.‏

قيل‏:‏ هذا لا يلزم لأنه لما لم يشاركه أحد فى ابتداء خلقه لم تجب مساواته له فيما ذكرتم، لأن آدم لم يتنقل فى رحم فيكون نطفة ثم علقة، والعلقة دم حكم لها بالنجاسة إذا انفصلت، ووجدنا الخارجات من البدن على ضربين‏:‏ فضرب مائع طاهر ليس خروجه بحدث ولا ينقض الوضوء كاللبن، والعرق، والدموع، والبصاق، والمخاط‏.‏

وضرب آخر نجس وخروجه حدث ينقض الطهارة ويجب غسله، كالبول، والغائط، ودم الحيض، والمذى‏.‏

وثبت بالإجماع‏:‏ أن المذى ينقض الطهر ويوجبه، فكذلك المنى‏.‏

باب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ‏:‏ كُنْتُ أَغْسِل الْمَنِىّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ‏.‏

- وقال مرة‏:‏ إن عَائِشَة كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِىَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا‏.‏

قوله‏:‏ تمت وأثر الغسل- يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون معناه‏:‏ بلل الماء الذى غُسل به الثوب، والضمير راجع فيه إلى أثر الماء، فكأنه قال‏:‏ وأثر الغسل بالماء بقع الماء فيه، يعنى لا بقع الجنابة‏.‏

ويحتمل أن يكون معناه‏:‏ وأثر الغسل يعنى أثر الجنابة التى غسلت بالماء فيه بقع الماء التى غسلت به الجنابة، والضمير فيه راجع إلى أثر الجنابة لا إلى أثر الماء‏.‏

وكلا الوجهين جائز، لكن قوله فى الحديث الآخر‏:‏ تمت أنها كانت تغسل المنى من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أراه فيه بقعة أو بقعًا‏.‏

يدل أن تلك البقع كانت بقع المنى، وطبعه لا محالة، لأن العرب أبدًا ترد الضمير إلى أقرب مذكور، وضمير المنى فى الحديث الآخر أقرب من ضمير الغسل‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه‏:‏ أن أثر النجاسات بعد الغسل لا يضر، وأن تلك الآثار والطباع هى طبع النجاسة، وذلك باق فى الثوب، وإذا ثبت هذا، ثبت أن غسل النجاسات ليس بفرض، لعدم استئصال أثرها، وسائر النجاسات فى ذلك حكمها حكم الجنابة، وأنها إذا غسلت أعيانها وبقيت آثارها لم يضر ذلك، ولذلك قال البخارى‏:‏ باب إذا غسل الجنابة‏.‏

أو غيرها لم يذهب أثرها، قياسًا لسائر النجاسات على الجنابة، ولا أعلم خلافًا لهذا إلا ما يروى عن ابن عمر أنه كان إذا وجد دمًا فى ثوبه، فغسله فبقى أثره دعا بحلمين فقطعه‏.‏

وقد روى عن عائشة أنها صلت فى ثوب كان فيه دم فبقى أثره‏.‏

وروى مثله عن علقمة، وهو مذهب مالك، والشافعى، وجماعة‏.‏

وفيه‏:‏ خدمة المرأة لزوجها فى غسل ثيابه وشبه ذلك‏.‏